المحلة الكبري.. قصة جميلة تأبي النهايات السعيدة.. وإلا فلماذا نصر علي اغتيالها؟!
في طريقنا من القاهرة إلي المدينة العريقة.. بدا الطريق وكأنه خيط مشدود من الأزمات والخطايا.. اعتدنا أن نأخذ منها خيوط الغزل الجميل ونرد الثمن مشاكل ومعوقات ونكران الجميل.. تكسونا ونعريها.. نرتديها قطنا وصوفا.. ونخلعها من قلوبنا وأذهاننا حين تئن بالشكوي وتطلق أنات الألم والمرض.
المحلة.. الناس والمصانع والحكايات تقف وحدها الآن في مواجهة مصير مجهول تكاثرت عليها الحكومة والإدارة والضرائب والزمن, ولم يعد أمامها سوي إغلاق مصنع نسيج كل يوم.. وحلت المقاهي محل المصانع, وخلع العمال أفرول الشغل والعرق وجلسوا مع طوابير العاطلين أمام الشيشة.
إنها رحلة صادمة إلي قلعة الغزل والنسيج في مصر قطعناها لنرصد ما كان.. وسيكون!
الصدمة هي أول ما تشعر به فور أن تدخل المحلة وبالتحديد شارع23 يوليه الشارع الرئيسي في المدينة فهذه ليست المحلة التي يمكن أن تتخيلها فالشارع الذي يمتد من مدخل المدينة ليصل حتي قلبها أسوأ من أن يوصف في قذارته حتي الميدان الشهير ميدان الساعة أو الشون سابقا ليس سوي هيكل معدني مصغر من برج إيفل يحمل فوقه ساعة لا تعمل ولا أعرف العلاقة بين المحلة قلعة صناعة النسيج في مصر وبرج إيفل.
التجول في شارع23 يوليه نفسه كان كافيا ليجسد أحوال المدينة فالشارع حسب تقدير أحد أبناء المحلة فيه ما يقارب سبعين مقهي, إذ تتزاحم المقاهي علي جانبيه بروادها من الشباب رغم أننا دخلنا المدينة في الثانية عشرة ظهرا أما موقف الأتوبيس فقد تحول إلي مقلب مغطي للقمامة بينما زاد عدد سيارات الميكروباص علي البشر ولم لا وهي الوسيلة الوحيدة الآن لامتصاص بطالة شباب المحلة من أصحاب الشهادات؟!!
هذا هو ملخص أحوال قلعة الصناعة سريعا أما في الداخل فالتفاصيل كثيرة ومرة وربما كان العنوان الوحيد لها هو الشكوي.. فالكل هنا يشكو, من يعملون ومن لا يعملون أصحاب الأعمال والعمال في البداية ذهبنا حيث تقود الأقدام جميع زائري المحلة إنها شركة مصر لصناعة الغزل والنسيج أكبر شركات النسيج في مصر قلعة ضخمة علي مساحة تزيد علي600 فدان نصفها أو يزيد منشآت إنتاجية والنصف الآخر خدمات للعاملين من مساكن وملاعب ومستشفي, هذه الضخامة والعراقة دخلت نفق الأزمات وهو ما تؤكده التقارير الحكومية سواء الصادرة عن قطاع الأعمال والذي تتبع الشركة إحدي شركاته الثلاث العاملة في مجال الغزل والنسيج وهي الشركة القابضة للغزل والنسيج والملابس الجاهزة أو حتي تقارير صندوق دعم صناعة الغزل والمنسوجات الذي أنشيء منذ سنوات بهدف دعم صناعة النسيج في مصر والتي بات واضحا للجميع أنها في طريقها إلي الانهيار.
التاريخ يخسر
التقارير أشارت إلي أن الشركة القابضة للغزل والنسيج والملابس الجاهزة التي تمثل شركة مصر للغزل والنسيج إحدي دعاماتها الأساسية حققت عام97 خسائر قدرت بحوالي900 مليون جنيه بنسبة عجز وصلت إلي حوالي75% مقارنة بعام91/92 عندما صدر القانون203 الخاص بقطاع الأعمال وتحويل الصناعة إلي شركات قابضة! هذه التقارير رغم ما تثيره من قلق فإنها لن تمحو تاريخ شركة مصر لصناعة الغزل والنسيج في المحلة الكبري هذه الشركة التي كتبت بها المحلة تاريخها الحديث وجعلت يوم دوران أول ماكينة غزل بها عيدا قوميا لمدينة المحلة ليظل يوم17 مايو عام1929 يوما فارقا في تاريخ هذه المدينة الصغيرة التي عرفت صناعة النسيج منذ مئات السنين واختارها طلعت حرب الاقتصادي المصري العظيم لتكون قلعة لصناعة النسيج في العصر الحديث.
والآن وبعد مرور ما يقرب من75 عاما أصبح الخوف هو الشعور الوحيد الذي يتملك كل من يعرف أن هذه القلعة باتت مهددة خاصة أن عام2005 بات قريبا جدا وسيأتي معه التطبيق الكامل لاتفاقية الجات أو تحرير التجارة العالمية وهو ما أوصت عشرات التقارير الحكومية بالتحسب له فالمنافسة القادمة لن يقف أحد أمامها حتي لو كانت هذه القلعة الرمز التي لن تغرق وحدها بل سيغرق معها أكثر من12 ألف مصنع للنسيج في مصر وحوالي1500 مصنع في المحلة, فضلا عن حوالي29 ألف عامل في شركة مصر لصناعة الغزل والنسيج وحوالي50 ألف عامل موزعين علي مصانع المحلة الأخري فماذا ستفعل الشركة كما يسميها أبناء المحلة تساؤلات حملتها وتوجهت بها إلي رئيس مجلس إدارة شركة مصر للغزل والنسيج ولمرتين متتاليتين ولكنه لم يتفضل بمقابلتنا وفضل الصمت مرة بانشغاله ومرة ثانية لعدم وجوده في الشركة رغم أن المسافة بين النادي حيث كان يجلس والشركة لا تزيد علي مائتي متر!!!
أين الغزول
ومن المصنع الرمز انطلقنا حيث المنطقة الصناعية كما اقترح علينا أبناء المحلة, والمنطقة الصناعية هنا ليست كما نتخيلها وكما توجد في المدن الجديدة ففي المحلة يختلط البشر بالصناعة, البيت يجاور المصنع والقماش الذي تخرجه الماكينة ينافسه حبل غسيل مملوء بملاءات قطن صناعة المحلة الكبري.. والمنطقة الصناعية هي المركز الرئيسي لمصانع النسيج الخاصة في المحلة والتي تتنوع ما بين مصانع لا يزيد حجم العمالة بها علي20 عاملا إلي المصانع التي تصل العمالة بها إلي عدة آلاف.
حسن بلجة صاحب أحد مصانع الوبريات( ويقصد بها الفوط بأنواعها) بالمناسبة المصانع هنا تنقسم إلي تخصصات فهناك مصانع الكوفرتات والمفارش وهناك أقمشة البنطلون والقميص وهكذا وحسن بلجة هو أيضا رئيس جمعية أصحاب مصانع النسيج وهي أشبه ما تكون بالجمعيات التعاونية مهمتها كما قال لنا الحاج حسن توفير الغزول لأصحاب المصانع ومساعدتهم بتقديم تسهيلات في الدفع لمن يعجزون عن السداد النقدي ولكن هل توفير الغزول وهي المادة الخام المنتجة من القطن مشكلة؟
أساله ويجيب: نحن بلد القطن خاصة القطن المتميز ولكننا نعيش أزمة حقيقية للحصول علي الغزول فالقطن المصري مرتفع السعر جدا مقارنة بالمستورد خاصة الشعيرات طويلة التيلة ومتوسطة التيلة وذلك لندرة وجودها حيث يتم تصدير معظمها إلي الخارج وبالتالي زاد سعرها إلي درجة كبيرة حتي أن غزل مثل جيزة80 وجيزة81 يباع الآن بحوالي315 جنيها للقنطار وهو سعر خيالي, حتي عندما حاولت الحكومة دعم السعر لتهبط به إلي265 جنيها قامت الشركة المنتجة للغزول بوضع الدعم في( جيوبها) ولم يحدث خفض للسعر ولم تكتف المحالج بسوء إنتاجها الذي نعاني منه وأسهم في انخفاض ما ينتج من غزول نتيجة لعدم مسايرتها للتكنولوجيا الحديثة مما خفض حجم المستهلك إلي النصف فبدلا من إنتاجنا لستة ملايين قنطار أصبحنا ننتج3 ملايين قنطار فقط مما جعل الحل الوحيد أمامنا هو الاستيراد من الخارج فهل يصدق أحد أن في مصر بلد القطن نستورد غزول القطن من سوريا وأمريكا وبالتالي يتحول ما يزيد علي3 ملايين قنطار من القطن إلي مخزون لا فائدة منه أي ضياع200 مليون جنيه في المخازن!!
ولكن ماذا عن دوركم, فقد لاحظت أن المصانع تبدو غير متطورة وتقع في شوارع ضيقة وغير صحية؟
نحن نفعل ما نستطيعه ويكفي أننا نستطيع الاستمرار وسط معوقات كثيرة تواجهنا, فكيف يمكن أن نطور بينما تصل فائدة البنوك إلي20% كما أن الضرائب تحاصرنا بـ11 نوعا من الضرائب والكهرباء تحاسبنا أغلي من المنازل تخيلي أن من يستهلك كهرباء في الفرجة علي التليفزيون يدعمونه ومن يشغل آلة نسيج تفتح عشرات البيوت لا يدعمونه هذا بخلاف الماء الذي يعتبر الأساس في عمل المصانع نحن في أزمة والحكومة تتفرج علينا يكفي أن نعرف أن مصر وبالتحديد غرفة صناعة النسيج وأنا عضو بها أخذت قرضا قيمته427 مليون يورو من الاتحاد الأوروبي لتحديث الصناعة ووضعوا شروطا لإنفاقها وكان من المفترض أن تنفق من عام98 حتي عام2002 ولكن لم نضع خطة لإنفاقها بما يتفق مع الشروط وأرسلنا نطلب منهم مد المهلة حتي عام2006 خاصة أن الاتحاد طلب حل عدة مشاكل قبل البدء في إنفاق القرض وهو ما لم يحدث حتي الآن!!
تركت الحاج حسن بحكاياته وأزماته المحبطة وعلي سلم الجمعية صدمتني جملة قالها أحد أصحاب المصانع والذي جاء بحثا عن الغزول:هو فيه إيه كأن الواحد بيشتري مخدرات إما مفيش أو الأسعار نار!!.
الصين المحلاوية
في الشارع الرئيسي تتراص علي الجانبين المصانع التي تبدو من الخارج كالبيوت الكبيرة نسبيا والتي لا تدرك من النظرة الأولي أنها مصانع تحوي آلات ضخمة ومئات العمال وفور أن تترك الشارع تبدأ حياة أخري حيث( سوق الجمعة) هذا هو اسمه لكنه سوق يقام طوال أيام الأسبوع فهو معرض مفتوح للمنتجات الشعبية لمئات المصانع, والمنتجات تبدو وكأنها صنعت خصيصا للقادمين من القري المجاورة والمحافظات المحيطة جلاليب وعبايات ومفروشات عرائس.
بسمة.. شابة في الواحدة والعشرين نموذج للمواطن المحلاوي الذي تمتد جذوره في ماكينات الغزل والنسيج, وهي حاصلة علي دبلوم إدارة وخدمات الملابس الحريمي منذ3 سنوات بينما كان جدها من عمال مصنع مصر للغزل والنسيج أو كما قالت لنا كان يعمل في الشركة والآن يعمل خالها أمام نفس ماكينة النسيج أما خطيبها فهو ترزي ومقصدار سألتها بعد أن بهرتني موديلات قمصان نسائية: هل هذه البضاعة صيني؟
ضحكت بسمة: مفيش حاجة صيني هنا في السوق كله إنتاج المحلة هذا إنتاج مصنع الأزهار منتجاته أحلي من الصيني وأسعاره رخيصة وفيه مقاسات كبيرة لا ينفذها غيره وسيدات القري حولنا بيشتروها علشان المقاسات الكبيرة احنا هنا عندنا خبرة ويمكن أحسن من الصين في صناعة الملابس لكن مع الأسف البلد حالتها ساءت جدا تخيلي أن عمال النسيج بيروحوا ليبيا يشتغلوا هناك وبعضهم راح السويس للعمل في المصانع الجديدة بصراحة إذا لم يجدوا حلا لمشاكل المحلة سنصبح مثل بورسعيد الناس هناك مش لاقيين شغل بعد أن بدأت المصانع تقفل وتسرح العمال ومش عارفة هيروحوا فين تاني؟!
12 ضريبة
تركت بسمة في طريقي إلي محلة البرج حيث الشطر الآخر من المنطقة الصناعية أو بالتحديد المنطقة القديمة حيث المساكن هنا أكثر كثيرا والزحام لا يمكن تصوره, أما أكوام القمامة التي تسد شوارع بأكملها فهي أمر عادي جدا.
مصنع الحاج محمد أبو شادي في شارع ضيق لا يسمح سوي بمرور سيارة واحدة بينما لا أثر لأسفلت أما الحاج نفسه فقد كان مشغولا باجترار قصة معاناة مصانع النسيج الخاصة في المحلة باعتباره ليس فقط صاحب مصنع ولكنه أيضا رئيس رابطة أصحاب المصانع الخاصة التي يقدرها الحاج بحوالي ألف مصنع يعمل بها ما يزيد علي40 ألف عامل هذا خلاف الصناعات الأخري القائمة علي صناعة النسيج كورش النجارة والحدادة.
ويضيف الحاج محمد أبو شادي أنا لي أكثر من ثلاثين عاما في صناعة النسيج, زمان ورغم مشاكلنا مع الكهرباء والموظفين لم نتخيل أن تصل الأمور لما وصلت إليه الآن هل تصدقي أننا كنا في بداية الثمانينيات1500 مصنع, والآن أصبحنا1000 مصنع فقط كل يوم تزداد القيود والضرائب فنحن مثلا ندفع11 نوعا من الضرائب أولها ضريبة المبيعات ونسبتها18% من قيمة الخامات وأضيف لها أخيرا المرحلة الثانية والثالثة ثم هناك ضريبة المبيعات علي الآلات المستوردة ونسبتها10% وضريبة الأرباح الصناعية32% وضريبة الإيراد العام وتبدأ من8% وحتي90% وضريبة الأجور حتي أننا ندفع ضريبة علي القوي المحركة وهي قوة الآلات وتبلغ6 جنيهات عن كل حصان طابور طويل من( الجباية) فكيف نستطيع الاستمرار خاصة بعد تفجر مشكلة( الغزول) وهي أخطر ما في الموضوع فقد فوجئنا بقرارات غريبة بتصدير الأقطان المصرية شعرا دون أي حساب للاحتياجات المحلية مما تسبب في حدوث أزمة لدي الشركات المصرية, وهو ما دفع كثيرا من المصانع إلي الاعتماد علي الاستيراد أو تقليل الطاقة التي تعمل بها تلك المصانع وبالتالي تقليل العمالة ولم تتوقف الأزمات عند هذا الحد فالأسلوب المتعارف عليه لدينا أن المصانع تأخذ( الغزول) من الجمعية التعاونية وهذا الأمر مستقر عليه منذ خمسين عاما والجمعية بدورها كانت توفر الغزول للمصانع بعد شرائها من شركات القطاع العام بالأجل علي فترات تتراوح بين ستة وثمانية أشهر وهو نفس ما كانت تفعله مع المصانع مقابل عمولة1% تقريبا ولكننا أخيرا فوجئنا بأن الشركات تطلب من الجمعية أن تدفع نقدا فيما عدا شركتين أو ثلاث كانت تمهلنا في الدفع ولم يعد أمام الجمعية سوي إقراض المصانع كالنظام القديم مقابل شيكات وكمبيالات وهو ما أدي إلي تعثر بعض المصانع حتي اضطر أصحابها لإغلاقها لأنه مطلوب منهم سداد فوائد وفي نفس الوقت لا يأخذون ثمن ما ينتجونه من القماش نقدا فالتجار في القاهرة أو المحافظات لا يدفعون نقدا ونحن وسط كل هذه الأزمات نختنق ولكننا لا نملك سوي الاستمرار في العمل وإلا ستنهار المدينة بأكملها فالنسيج هو العمود الفقري لاقتصاد المحلة ولحياة أكثر من700 ألف مواطن!!
والتصدير ما موقفكم منه ولماذا لا يتحدث أحد عنه؟!
كيف نصدر ونحن مكبلو الأقدام في الداخل والحكومة بكل ما تملكه من إمكانات في الخارج من سفارات ومفوضين تجاريين لا تفعل شيئا فمسألة التصدير تحتاج إلي إمكانات لا يمكن أن نقدر عليها كأفراد وهذا دور المسئولين والمكاتب التجارية في الخارج ومع الأسف فالمسئولون لا يشعرون بنا ولا يدركون دورهم الحقيقي فمنذ6 أشهر بعد أن خنقتنا المشاكل أرسلنا مذكرة إلي وزير الصناعة وصورا منها إلي جميع الجهات الرسمية فقام الوزير بتكليف مجموعة من خبراء الهيئة العامة للتصنيع للحديث معنا وأرسلوا لنا أربع مرات للقائهم وفي كل مرة نجلس ونتحدث ونناقش ولا نخرج بشيء وفي آخر لقاء قلت لهم بصراحة أنتم لن تحلوا المشكلة ولا فائدة من الكلام ولم يعد أمامنا سوي العمل ولكن إلي متي؟ والله أعلم فأي صاحب مصنع لا يستطيع الصمود أكثر من عام في حالة الخسارة بعدها سيغلق وهذا ما حدث مع كثيرين, بعضهم كانوا من رموز الصناعة!!
ويفضل أصحاب المصانع في المحلة والمهتمين بالنسيج أن يتحدثوا عن الحاج محب قادوس وهو واحد من أقدم صناع النسيج وهو أيضا عميد عائلة قادوس إحدي أشهر وأعرق عائلات المحلة, والحاج محب توفي قبل عام بعد أن انتهت حياته قبلها بشهور وبالتحديد عندما قرر إغلاق مصنعه الشهير والذي كان إحدي علامات المحلة, المصنع تحول جزء منه لبوتيكات لبيع الملابس الجاهزة والبياضات بينما واجهة المصنع الخارجية تحولت للوحة للإعلان عن مكتب الأقصي لإلحاق العمالة بالخارج!!! وهو الحلم الذي يبدو أنه أصبح قبلة لعمال أكثر من280 مصنعا تم إغلاقها أيضا.
آلاف العمال مهددون بفقد مصدر رزقهم
نصف الحياة
الثالثة والنصف عصرا توقيت يعرفه أهالي المحلة جيدا ففي هذا الوقت يمكنك أن تري مشهدا فريدا لا يتكرر إلا هنا في المحلة منذ أكثر من75 عاما, ثلاثون ألفا من البشر, ستون ألف ذراع تخرج من بوابة الشركة معلنة نهاية يوم عمل بدأ في السابعة والنصف صباحا, ليبدأ نصف الحياة الآخر حيث البيت والأبناء والحياة المعتادة لاسيما أن نصف عمالة الشركة من النساء واللاتي تبدأ حياتهن في الرابعة عقب العودة من العمل, وهانم هي إحدي وجوه النساء( المجهدة) والتي قابلتها أمام بوابة المصنع, تعمل هانم في الشركة منذ32 عاما فقد دخلتها كعشرات الفتيات وهي صبية عمرها14 عاما وتكمل حكايتها: دخلنا المصنع في مدرسة الصبية وتدربنا لمدة سنتين بأجر رمزي وعندما أكملت18 عاما أخذنا السجل واشتغلت في خط إنتاج الجاكت والسجل لدي عمال الشركة هو شهادة الاعتراف الرسمية بالعامل وهو عبارة عن بطاقة بها صورة العامل واسمه بالكامل ورقمه الذي يظل يتعامل به حتي خروجه للمعاش!!
سألت هانم: هل طبيعي وأنتم مجتمع ريفي أن تعمل النساء في المصانع؟
وردت مقاطعة: احنا بنشتغل في الشركة وهذا ليس عيبا هنا, فطبيعي جدا أن النساء تشتغل كما أن الرجال لهم أماكنهم وتخصصاتهم والنساء لهن تخصصات أخري.
ميرفت وأماني وزينب ثلاث شابات إحداهن متزوجة والأخريان مخطوبتان أماني قالت إنها تترك ابنها لدي والدتها بينما ميرفت تستعد للزواج وتراهن علي أن الشاب يفضل الفتاة التي تعمل لأنها سوف تساعده علي الحياة كما أن شغل الشركة محترم ويقدم خدمات كثيرة للعاملات من علاج وسلع وغيرها.
والبيت كيف تتم إدارته؟
تجيب أماني: عادي بعد أن نعود من العمل نصبح ربات بيوت كأي ست عادية ولكننا اعتدنا علي هذا ومفيش أي مشكلة.
انتظار المجهول
صورة آلاف العمال المغادرين للمصنع تنتهي بعد نصف ساعة أو أقل ولكن تظل صورة الأزمة في مخيلة الجميع ممن يخافون المستقبل عندما يتم تسريح هؤلاء العمال يوما أو حتي تخفيضهم وهو ما حدث جزئيا عندما أصبحت الشركة تابعة لقطاع الأعمال العام وتم خفض التعينيات والعمالة الزائدة لتهبط العمالة من34212 ألفا عام86 إلي28735 عام97 بينما انخفضت قيمة مبيعات الشركة من787404 عام95 إلي723913 عام97 وارتفعت قيمة المخزون من الإنتاج من107 عام85 إلي2059 عام.97 لا أعرف لماذا تذكرت الآن ومع هذه الأرقام ما ورد في تقرير صندوق دعم صناعة الغزل والمنسوجات الذي أشار إلي تزايد أرصدة السحب علي المكشوف بنسبة كبيرة بين شركات النسيج حيث بلغت نسبة الزيادة نهاية عام97 حوالي207% بالمقارنة بعام92 عند بدء تحويلها إلي قطاع الأعمال العام وأرجع التقرير السبب إلي الخلل الشديد في الهياكل التمويلية للشركات مما أدي إلي توقفها عن السداد وتراكم الفوائد عليها بالإضافة إلي زيادة المخزون من الإنتاج والتوسع في البيع بالأجل وضعف تحصيل المديونيات.
وهذا يعني ببساطة شديدة أن الشركات تخسر وما يعلن عنه من زيادة أجور وإنتاج لا يعبر, سوي عن مزيد من الديون والركود!! خاصة مع زيادة نسبة الإنتاج المعيب والتي وصلت في شركة مصر للغزل والنسيج حسب تقرير لجنة الصناعة في مجلس الشعب إلي حوالي7.1% عام95 مقابل507% عام93!!! هذه اللجنة نفسها التي قدمت عام97 تقريرا إلي وزير قطاع الأعمال العام! أوجزت فيه أسباب تخلف صناعة النسيج في جملة قالت فيها:اللجنة تأكد لها أن معظم مشاكل شركات قطاع الأعمال العام إنما تكمن في فساد الإدارة في بعض الشركات وإساءة اختيار رؤساء مجالس إداراتها وعدم مراعاة عنصر الكفاءة والخبرة المطلوبة.
يبدو أن كلام التقرير لا ينطبق فقط علي مصانع المحلة بل علي مرافقها وشوارعها التي باتت تشكو سوء الإدارة والإهمال وإلا فمن يصدق أن قلعة الصناعة تعاني من مياه الشرب الملوثة وشبكة الصرف المتهالكة والشوارع التي تحتاج حسب تقديرات المسئولين بها لأحد عشر مليون جنيه للرصف فقط بينما ما تم اعتماده من ميزانية للتجميل لا يتعدي125 ألف جنيه.
أين الاعتمادات
الحاج عبد السميع الشامي عضو مجلس الشعب عن المحلة وأحد كبار تجار الأقمشة المعروفين جلسنا معه في محله المشهور في منطقة سوق الجمعة وقد فضل الحاج الكلام عن نفسه أولا وقبل أن أسأله فقال: التطوير شيء مهم جدا نحن طورنا أنفسنا لقد بدأت تاجر قماش صغير والآن أرسل ابني محمود إلي أوروبا ليطلع علي أحدث موديلات الأقمشة والألوان ويحضر منها عينات وننفذها هنا في مصنعي فأنا اشتري المنسوجات من شركة مصر بما يقارب150 مليون جنيه سنويا وأتولي صبغها فنحن نحاول أن نطور المهنة وإلا ستنقرض!
قاطعته: وماذا عن مشكلة المحلة وبالتحديد صناعة الغزل والنسيج بها؟
المشكلة في الحكم المحلي الذي يعطي التراخيص بشروط صعبة جدا وليس لديه أسهل من إصدار قرارات الغلق لأي سبب وآخر شيء يفعلونه هو الغلق لمخالفة شروط البيئة سواء بسبب الضوضاء أو تصريف المياه خاصة في المصانع, فجأة اكتشفوا أن هناك شروطا بيئية بينما نعمل منذ أكثر من50 عاما ولم يوجهنا أحد والغلق ليس هو الحل ولوسألنا أي عامل هل يتحمل الضوضاء أم البطالة سيضحك علينا ثم إن المصانع التي تغلق لا تستبدل بأخري بل تتحول لمقاه يجلس عليها العاطلون.
وشوارع المدينة ومرافقها التي تبدو كشوارع قرية وليست مدينة لها تاريخ؟
نحن نحارب لنحصل علي اعتمادات لإصلاح شبكة الطرق والصرف والسنة الماضية نجحنا في تخصيص اعتمادات بلغت210 ملايين جنيه منها60 مليونا للمياه,150 للصرف الصحي والصناعي وما تعجز عنه الميزانية نحاول أن نفعله بأنفسنا فأنا تبرعت بإقامة نفق للمشاه بعد أن تكررت الحوادث علي الطريق!!! ونحن لا نتوقف عن إثارة مشاكلنا في المجلس كلما سنحت الفرصة.
لا أعرف لماذا تذكرت وأنا أغادر المحلة قصة جمال مسعد أحد أبناء المحلة الذي وقف أمام بنك القاهرة فرع المحلة مهددا بالقيام بعملية انتحارية لتفجير البنك ما لم يحل المسئولون مشكلته وهي إيجاد عمل بعد أن وصل عمره إلي42 عاما ولايزال عاطلا!*
في طريقنا من القاهرة إلي المدينة العريقة.. بدا الطريق وكأنه خيط مشدود من الأزمات والخطايا.. اعتدنا أن نأخذ منها خيوط الغزل الجميل ونرد الثمن مشاكل ومعوقات ونكران الجميل.. تكسونا ونعريها.. نرتديها قطنا وصوفا.. ونخلعها من قلوبنا وأذهاننا حين تئن بالشكوي وتطلق أنات الألم والمرض.
المحلة.. الناس والمصانع والحكايات تقف وحدها الآن في مواجهة مصير مجهول تكاثرت عليها الحكومة والإدارة والضرائب والزمن, ولم يعد أمامها سوي إغلاق مصنع نسيج كل يوم.. وحلت المقاهي محل المصانع, وخلع العمال أفرول الشغل والعرق وجلسوا مع طوابير العاطلين أمام الشيشة.
إنها رحلة صادمة إلي قلعة الغزل والنسيج في مصر قطعناها لنرصد ما كان.. وسيكون!
الصدمة هي أول ما تشعر به فور أن تدخل المحلة وبالتحديد شارع23 يوليه الشارع الرئيسي في المدينة فهذه ليست المحلة التي يمكن أن تتخيلها فالشارع الذي يمتد من مدخل المدينة ليصل حتي قلبها أسوأ من أن يوصف في قذارته حتي الميدان الشهير ميدان الساعة أو الشون سابقا ليس سوي هيكل معدني مصغر من برج إيفل يحمل فوقه ساعة لا تعمل ولا أعرف العلاقة بين المحلة قلعة صناعة النسيج في مصر وبرج إيفل.
التجول في شارع23 يوليه نفسه كان كافيا ليجسد أحوال المدينة فالشارع حسب تقدير أحد أبناء المحلة فيه ما يقارب سبعين مقهي, إذ تتزاحم المقاهي علي جانبيه بروادها من الشباب رغم أننا دخلنا المدينة في الثانية عشرة ظهرا أما موقف الأتوبيس فقد تحول إلي مقلب مغطي للقمامة بينما زاد عدد سيارات الميكروباص علي البشر ولم لا وهي الوسيلة الوحيدة الآن لامتصاص بطالة شباب المحلة من أصحاب الشهادات؟!!
هذا هو ملخص أحوال قلعة الصناعة سريعا أما في الداخل فالتفاصيل كثيرة ومرة وربما كان العنوان الوحيد لها هو الشكوي.. فالكل هنا يشكو, من يعملون ومن لا يعملون أصحاب الأعمال والعمال في البداية ذهبنا حيث تقود الأقدام جميع زائري المحلة إنها شركة مصر لصناعة الغزل والنسيج أكبر شركات النسيج في مصر قلعة ضخمة علي مساحة تزيد علي600 فدان نصفها أو يزيد منشآت إنتاجية والنصف الآخر خدمات للعاملين من مساكن وملاعب ومستشفي, هذه الضخامة والعراقة دخلت نفق الأزمات وهو ما تؤكده التقارير الحكومية سواء الصادرة عن قطاع الأعمال والذي تتبع الشركة إحدي شركاته الثلاث العاملة في مجال الغزل والنسيج وهي الشركة القابضة للغزل والنسيج والملابس الجاهزة أو حتي تقارير صندوق دعم صناعة الغزل والمنسوجات الذي أنشيء منذ سنوات بهدف دعم صناعة النسيج في مصر والتي بات واضحا للجميع أنها في طريقها إلي الانهيار.
التاريخ يخسر
التقارير أشارت إلي أن الشركة القابضة للغزل والنسيج والملابس الجاهزة التي تمثل شركة مصر للغزل والنسيج إحدي دعاماتها الأساسية حققت عام97 خسائر قدرت بحوالي900 مليون جنيه بنسبة عجز وصلت إلي حوالي75% مقارنة بعام91/92 عندما صدر القانون203 الخاص بقطاع الأعمال وتحويل الصناعة إلي شركات قابضة! هذه التقارير رغم ما تثيره من قلق فإنها لن تمحو تاريخ شركة مصر لصناعة الغزل والنسيج في المحلة الكبري هذه الشركة التي كتبت بها المحلة تاريخها الحديث وجعلت يوم دوران أول ماكينة غزل بها عيدا قوميا لمدينة المحلة ليظل يوم17 مايو عام1929 يوما فارقا في تاريخ هذه المدينة الصغيرة التي عرفت صناعة النسيج منذ مئات السنين واختارها طلعت حرب الاقتصادي المصري العظيم لتكون قلعة لصناعة النسيج في العصر الحديث.
والآن وبعد مرور ما يقرب من75 عاما أصبح الخوف هو الشعور الوحيد الذي يتملك كل من يعرف أن هذه القلعة باتت مهددة خاصة أن عام2005 بات قريبا جدا وسيأتي معه التطبيق الكامل لاتفاقية الجات أو تحرير التجارة العالمية وهو ما أوصت عشرات التقارير الحكومية بالتحسب له فالمنافسة القادمة لن يقف أحد أمامها حتي لو كانت هذه القلعة الرمز التي لن تغرق وحدها بل سيغرق معها أكثر من12 ألف مصنع للنسيج في مصر وحوالي1500 مصنع في المحلة, فضلا عن حوالي29 ألف عامل في شركة مصر لصناعة الغزل والنسيج وحوالي50 ألف عامل موزعين علي مصانع المحلة الأخري فماذا ستفعل الشركة كما يسميها أبناء المحلة تساؤلات حملتها وتوجهت بها إلي رئيس مجلس إدارة شركة مصر للغزل والنسيج ولمرتين متتاليتين ولكنه لم يتفضل بمقابلتنا وفضل الصمت مرة بانشغاله ومرة ثانية لعدم وجوده في الشركة رغم أن المسافة بين النادي حيث كان يجلس والشركة لا تزيد علي مائتي متر!!!
أين الغزول
ومن المصنع الرمز انطلقنا حيث المنطقة الصناعية كما اقترح علينا أبناء المحلة, والمنطقة الصناعية هنا ليست كما نتخيلها وكما توجد في المدن الجديدة ففي المحلة يختلط البشر بالصناعة, البيت يجاور المصنع والقماش الذي تخرجه الماكينة ينافسه حبل غسيل مملوء بملاءات قطن صناعة المحلة الكبري.. والمنطقة الصناعية هي المركز الرئيسي لمصانع النسيج الخاصة في المحلة والتي تتنوع ما بين مصانع لا يزيد حجم العمالة بها علي20 عاملا إلي المصانع التي تصل العمالة بها إلي عدة آلاف.
حسن بلجة صاحب أحد مصانع الوبريات( ويقصد بها الفوط بأنواعها) بالمناسبة المصانع هنا تنقسم إلي تخصصات فهناك مصانع الكوفرتات والمفارش وهناك أقمشة البنطلون والقميص وهكذا وحسن بلجة هو أيضا رئيس جمعية أصحاب مصانع النسيج وهي أشبه ما تكون بالجمعيات التعاونية مهمتها كما قال لنا الحاج حسن توفير الغزول لأصحاب المصانع ومساعدتهم بتقديم تسهيلات في الدفع لمن يعجزون عن السداد النقدي ولكن هل توفير الغزول وهي المادة الخام المنتجة من القطن مشكلة؟
أساله ويجيب: نحن بلد القطن خاصة القطن المتميز ولكننا نعيش أزمة حقيقية للحصول علي الغزول فالقطن المصري مرتفع السعر جدا مقارنة بالمستورد خاصة الشعيرات طويلة التيلة ومتوسطة التيلة وذلك لندرة وجودها حيث يتم تصدير معظمها إلي الخارج وبالتالي زاد سعرها إلي درجة كبيرة حتي أن غزل مثل جيزة80 وجيزة81 يباع الآن بحوالي315 جنيها للقنطار وهو سعر خيالي, حتي عندما حاولت الحكومة دعم السعر لتهبط به إلي265 جنيها قامت الشركة المنتجة للغزول بوضع الدعم في( جيوبها) ولم يحدث خفض للسعر ولم تكتف المحالج بسوء إنتاجها الذي نعاني منه وأسهم في انخفاض ما ينتج من غزول نتيجة لعدم مسايرتها للتكنولوجيا الحديثة مما خفض حجم المستهلك إلي النصف فبدلا من إنتاجنا لستة ملايين قنطار أصبحنا ننتج3 ملايين قنطار فقط مما جعل الحل الوحيد أمامنا هو الاستيراد من الخارج فهل يصدق أحد أن في مصر بلد القطن نستورد غزول القطن من سوريا وأمريكا وبالتالي يتحول ما يزيد علي3 ملايين قنطار من القطن إلي مخزون لا فائدة منه أي ضياع200 مليون جنيه في المخازن!!
ولكن ماذا عن دوركم, فقد لاحظت أن المصانع تبدو غير متطورة وتقع في شوارع ضيقة وغير صحية؟
نحن نفعل ما نستطيعه ويكفي أننا نستطيع الاستمرار وسط معوقات كثيرة تواجهنا, فكيف يمكن أن نطور بينما تصل فائدة البنوك إلي20% كما أن الضرائب تحاصرنا بـ11 نوعا من الضرائب والكهرباء تحاسبنا أغلي من المنازل تخيلي أن من يستهلك كهرباء في الفرجة علي التليفزيون يدعمونه ومن يشغل آلة نسيج تفتح عشرات البيوت لا يدعمونه هذا بخلاف الماء الذي يعتبر الأساس في عمل المصانع نحن في أزمة والحكومة تتفرج علينا يكفي أن نعرف أن مصر وبالتحديد غرفة صناعة النسيج وأنا عضو بها أخذت قرضا قيمته427 مليون يورو من الاتحاد الأوروبي لتحديث الصناعة ووضعوا شروطا لإنفاقها وكان من المفترض أن تنفق من عام98 حتي عام2002 ولكن لم نضع خطة لإنفاقها بما يتفق مع الشروط وأرسلنا نطلب منهم مد المهلة حتي عام2006 خاصة أن الاتحاد طلب حل عدة مشاكل قبل البدء في إنفاق القرض وهو ما لم يحدث حتي الآن!!
تركت الحاج حسن بحكاياته وأزماته المحبطة وعلي سلم الجمعية صدمتني جملة قالها أحد أصحاب المصانع والذي جاء بحثا عن الغزول:هو فيه إيه كأن الواحد بيشتري مخدرات إما مفيش أو الأسعار نار!!.
الصين المحلاوية
في الشارع الرئيسي تتراص علي الجانبين المصانع التي تبدو من الخارج كالبيوت الكبيرة نسبيا والتي لا تدرك من النظرة الأولي أنها مصانع تحوي آلات ضخمة ومئات العمال وفور أن تترك الشارع تبدأ حياة أخري حيث( سوق الجمعة) هذا هو اسمه لكنه سوق يقام طوال أيام الأسبوع فهو معرض مفتوح للمنتجات الشعبية لمئات المصانع, والمنتجات تبدو وكأنها صنعت خصيصا للقادمين من القري المجاورة والمحافظات المحيطة جلاليب وعبايات ومفروشات عرائس.
بسمة.. شابة في الواحدة والعشرين نموذج للمواطن المحلاوي الذي تمتد جذوره في ماكينات الغزل والنسيج, وهي حاصلة علي دبلوم إدارة وخدمات الملابس الحريمي منذ3 سنوات بينما كان جدها من عمال مصنع مصر للغزل والنسيج أو كما قالت لنا كان يعمل في الشركة والآن يعمل خالها أمام نفس ماكينة النسيج أما خطيبها فهو ترزي ومقصدار سألتها بعد أن بهرتني موديلات قمصان نسائية: هل هذه البضاعة صيني؟
ضحكت بسمة: مفيش حاجة صيني هنا في السوق كله إنتاج المحلة هذا إنتاج مصنع الأزهار منتجاته أحلي من الصيني وأسعاره رخيصة وفيه مقاسات كبيرة لا ينفذها غيره وسيدات القري حولنا بيشتروها علشان المقاسات الكبيرة احنا هنا عندنا خبرة ويمكن أحسن من الصين في صناعة الملابس لكن مع الأسف البلد حالتها ساءت جدا تخيلي أن عمال النسيج بيروحوا ليبيا يشتغلوا هناك وبعضهم راح السويس للعمل في المصانع الجديدة بصراحة إذا لم يجدوا حلا لمشاكل المحلة سنصبح مثل بورسعيد الناس هناك مش لاقيين شغل بعد أن بدأت المصانع تقفل وتسرح العمال ومش عارفة هيروحوا فين تاني؟!
12 ضريبة
تركت بسمة في طريقي إلي محلة البرج حيث الشطر الآخر من المنطقة الصناعية أو بالتحديد المنطقة القديمة حيث المساكن هنا أكثر كثيرا والزحام لا يمكن تصوره, أما أكوام القمامة التي تسد شوارع بأكملها فهي أمر عادي جدا.
مصنع الحاج محمد أبو شادي في شارع ضيق لا يسمح سوي بمرور سيارة واحدة بينما لا أثر لأسفلت أما الحاج نفسه فقد كان مشغولا باجترار قصة معاناة مصانع النسيج الخاصة في المحلة باعتباره ليس فقط صاحب مصنع ولكنه أيضا رئيس رابطة أصحاب المصانع الخاصة التي يقدرها الحاج بحوالي ألف مصنع يعمل بها ما يزيد علي40 ألف عامل هذا خلاف الصناعات الأخري القائمة علي صناعة النسيج كورش النجارة والحدادة.
ويضيف الحاج محمد أبو شادي أنا لي أكثر من ثلاثين عاما في صناعة النسيج, زمان ورغم مشاكلنا مع الكهرباء والموظفين لم نتخيل أن تصل الأمور لما وصلت إليه الآن هل تصدقي أننا كنا في بداية الثمانينيات1500 مصنع, والآن أصبحنا1000 مصنع فقط كل يوم تزداد القيود والضرائب فنحن مثلا ندفع11 نوعا من الضرائب أولها ضريبة المبيعات ونسبتها18% من قيمة الخامات وأضيف لها أخيرا المرحلة الثانية والثالثة ثم هناك ضريبة المبيعات علي الآلات المستوردة ونسبتها10% وضريبة الأرباح الصناعية32% وضريبة الإيراد العام وتبدأ من8% وحتي90% وضريبة الأجور حتي أننا ندفع ضريبة علي القوي المحركة وهي قوة الآلات وتبلغ6 جنيهات عن كل حصان طابور طويل من( الجباية) فكيف نستطيع الاستمرار خاصة بعد تفجر مشكلة( الغزول) وهي أخطر ما في الموضوع فقد فوجئنا بقرارات غريبة بتصدير الأقطان المصرية شعرا دون أي حساب للاحتياجات المحلية مما تسبب في حدوث أزمة لدي الشركات المصرية, وهو ما دفع كثيرا من المصانع إلي الاعتماد علي الاستيراد أو تقليل الطاقة التي تعمل بها تلك المصانع وبالتالي تقليل العمالة ولم تتوقف الأزمات عند هذا الحد فالأسلوب المتعارف عليه لدينا أن المصانع تأخذ( الغزول) من الجمعية التعاونية وهذا الأمر مستقر عليه منذ خمسين عاما والجمعية بدورها كانت توفر الغزول للمصانع بعد شرائها من شركات القطاع العام بالأجل علي فترات تتراوح بين ستة وثمانية أشهر وهو نفس ما كانت تفعله مع المصانع مقابل عمولة1% تقريبا ولكننا أخيرا فوجئنا بأن الشركات تطلب من الجمعية أن تدفع نقدا فيما عدا شركتين أو ثلاث كانت تمهلنا في الدفع ولم يعد أمام الجمعية سوي إقراض المصانع كالنظام القديم مقابل شيكات وكمبيالات وهو ما أدي إلي تعثر بعض المصانع حتي اضطر أصحابها لإغلاقها لأنه مطلوب منهم سداد فوائد وفي نفس الوقت لا يأخذون ثمن ما ينتجونه من القماش نقدا فالتجار في القاهرة أو المحافظات لا يدفعون نقدا ونحن وسط كل هذه الأزمات نختنق ولكننا لا نملك سوي الاستمرار في العمل وإلا ستنهار المدينة بأكملها فالنسيج هو العمود الفقري لاقتصاد المحلة ولحياة أكثر من700 ألف مواطن!!
والتصدير ما موقفكم منه ولماذا لا يتحدث أحد عنه؟!
كيف نصدر ونحن مكبلو الأقدام في الداخل والحكومة بكل ما تملكه من إمكانات في الخارج من سفارات ومفوضين تجاريين لا تفعل شيئا فمسألة التصدير تحتاج إلي إمكانات لا يمكن أن نقدر عليها كأفراد وهذا دور المسئولين والمكاتب التجارية في الخارج ومع الأسف فالمسئولون لا يشعرون بنا ولا يدركون دورهم الحقيقي فمنذ6 أشهر بعد أن خنقتنا المشاكل أرسلنا مذكرة إلي وزير الصناعة وصورا منها إلي جميع الجهات الرسمية فقام الوزير بتكليف مجموعة من خبراء الهيئة العامة للتصنيع للحديث معنا وأرسلوا لنا أربع مرات للقائهم وفي كل مرة نجلس ونتحدث ونناقش ولا نخرج بشيء وفي آخر لقاء قلت لهم بصراحة أنتم لن تحلوا المشكلة ولا فائدة من الكلام ولم يعد أمامنا سوي العمل ولكن إلي متي؟ والله أعلم فأي صاحب مصنع لا يستطيع الصمود أكثر من عام في حالة الخسارة بعدها سيغلق وهذا ما حدث مع كثيرين, بعضهم كانوا من رموز الصناعة!!
ويفضل أصحاب المصانع في المحلة والمهتمين بالنسيج أن يتحدثوا عن الحاج محب قادوس وهو واحد من أقدم صناع النسيج وهو أيضا عميد عائلة قادوس إحدي أشهر وأعرق عائلات المحلة, والحاج محب توفي قبل عام بعد أن انتهت حياته قبلها بشهور وبالتحديد عندما قرر إغلاق مصنعه الشهير والذي كان إحدي علامات المحلة, المصنع تحول جزء منه لبوتيكات لبيع الملابس الجاهزة والبياضات بينما واجهة المصنع الخارجية تحولت للوحة للإعلان عن مكتب الأقصي لإلحاق العمالة بالخارج!!! وهو الحلم الذي يبدو أنه أصبح قبلة لعمال أكثر من280 مصنعا تم إغلاقها أيضا.
آلاف العمال مهددون بفقد مصدر رزقهم
نصف الحياة
الثالثة والنصف عصرا توقيت يعرفه أهالي المحلة جيدا ففي هذا الوقت يمكنك أن تري مشهدا فريدا لا يتكرر إلا هنا في المحلة منذ أكثر من75 عاما, ثلاثون ألفا من البشر, ستون ألف ذراع تخرج من بوابة الشركة معلنة نهاية يوم عمل بدأ في السابعة والنصف صباحا, ليبدأ نصف الحياة الآخر حيث البيت والأبناء والحياة المعتادة لاسيما أن نصف عمالة الشركة من النساء واللاتي تبدأ حياتهن في الرابعة عقب العودة من العمل, وهانم هي إحدي وجوه النساء( المجهدة) والتي قابلتها أمام بوابة المصنع, تعمل هانم في الشركة منذ32 عاما فقد دخلتها كعشرات الفتيات وهي صبية عمرها14 عاما وتكمل حكايتها: دخلنا المصنع في مدرسة الصبية وتدربنا لمدة سنتين بأجر رمزي وعندما أكملت18 عاما أخذنا السجل واشتغلت في خط إنتاج الجاكت والسجل لدي عمال الشركة هو شهادة الاعتراف الرسمية بالعامل وهو عبارة عن بطاقة بها صورة العامل واسمه بالكامل ورقمه الذي يظل يتعامل به حتي خروجه للمعاش!!
سألت هانم: هل طبيعي وأنتم مجتمع ريفي أن تعمل النساء في المصانع؟
وردت مقاطعة: احنا بنشتغل في الشركة وهذا ليس عيبا هنا, فطبيعي جدا أن النساء تشتغل كما أن الرجال لهم أماكنهم وتخصصاتهم والنساء لهن تخصصات أخري.
ميرفت وأماني وزينب ثلاث شابات إحداهن متزوجة والأخريان مخطوبتان أماني قالت إنها تترك ابنها لدي والدتها بينما ميرفت تستعد للزواج وتراهن علي أن الشاب يفضل الفتاة التي تعمل لأنها سوف تساعده علي الحياة كما أن شغل الشركة محترم ويقدم خدمات كثيرة للعاملات من علاج وسلع وغيرها.
والبيت كيف تتم إدارته؟
تجيب أماني: عادي بعد أن نعود من العمل نصبح ربات بيوت كأي ست عادية ولكننا اعتدنا علي هذا ومفيش أي مشكلة.
انتظار المجهول
صورة آلاف العمال المغادرين للمصنع تنتهي بعد نصف ساعة أو أقل ولكن تظل صورة الأزمة في مخيلة الجميع ممن يخافون المستقبل عندما يتم تسريح هؤلاء العمال يوما أو حتي تخفيضهم وهو ما حدث جزئيا عندما أصبحت الشركة تابعة لقطاع الأعمال العام وتم خفض التعينيات والعمالة الزائدة لتهبط العمالة من34212 ألفا عام86 إلي28735 عام97 بينما انخفضت قيمة مبيعات الشركة من787404 عام95 إلي723913 عام97 وارتفعت قيمة المخزون من الإنتاج من107 عام85 إلي2059 عام.97 لا أعرف لماذا تذكرت الآن ومع هذه الأرقام ما ورد في تقرير صندوق دعم صناعة الغزل والمنسوجات الذي أشار إلي تزايد أرصدة السحب علي المكشوف بنسبة كبيرة بين شركات النسيج حيث بلغت نسبة الزيادة نهاية عام97 حوالي207% بالمقارنة بعام92 عند بدء تحويلها إلي قطاع الأعمال العام وأرجع التقرير السبب إلي الخلل الشديد في الهياكل التمويلية للشركات مما أدي إلي توقفها عن السداد وتراكم الفوائد عليها بالإضافة إلي زيادة المخزون من الإنتاج والتوسع في البيع بالأجل وضعف تحصيل المديونيات.
وهذا يعني ببساطة شديدة أن الشركات تخسر وما يعلن عنه من زيادة أجور وإنتاج لا يعبر, سوي عن مزيد من الديون والركود!! خاصة مع زيادة نسبة الإنتاج المعيب والتي وصلت في شركة مصر للغزل والنسيج حسب تقرير لجنة الصناعة في مجلس الشعب إلي حوالي7.1% عام95 مقابل507% عام93!!! هذه اللجنة نفسها التي قدمت عام97 تقريرا إلي وزير قطاع الأعمال العام! أوجزت فيه أسباب تخلف صناعة النسيج في جملة قالت فيها:اللجنة تأكد لها أن معظم مشاكل شركات قطاع الأعمال العام إنما تكمن في فساد الإدارة في بعض الشركات وإساءة اختيار رؤساء مجالس إداراتها وعدم مراعاة عنصر الكفاءة والخبرة المطلوبة.
يبدو أن كلام التقرير لا ينطبق فقط علي مصانع المحلة بل علي مرافقها وشوارعها التي باتت تشكو سوء الإدارة والإهمال وإلا فمن يصدق أن قلعة الصناعة تعاني من مياه الشرب الملوثة وشبكة الصرف المتهالكة والشوارع التي تحتاج حسب تقديرات المسئولين بها لأحد عشر مليون جنيه للرصف فقط بينما ما تم اعتماده من ميزانية للتجميل لا يتعدي125 ألف جنيه.
أين الاعتمادات
الحاج عبد السميع الشامي عضو مجلس الشعب عن المحلة وأحد كبار تجار الأقمشة المعروفين جلسنا معه في محله المشهور في منطقة سوق الجمعة وقد فضل الحاج الكلام عن نفسه أولا وقبل أن أسأله فقال: التطوير شيء مهم جدا نحن طورنا أنفسنا لقد بدأت تاجر قماش صغير والآن أرسل ابني محمود إلي أوروبا ليطلع علي أحدث موديلات الأقمشة والألوان ويحضر منها عينات وننفذها هنا في مصنعي فأنا اشتري المنسوجات من شركة مصر بما يقارب150 مليون جنيه سنويا وأتولي صبغها فنحن نحاول أن نطور المهنة وإلا ستنقرض!
قاطعته: وماذا عن مشكلة المحلة وبالتحديد صناعة الغزل والنسيج بها؟
المشكلة في الحكم المحلي الذي يعطي التراخيص بشروط صعبة جدا وليس لديه أسهل من إصدار قرارات الغلق لأي سبب وآخر شيء يفعلونه هو الغلق لمخالفة شروط البيئة سواء بسبب الضوضاء أو تصريف المياه خاصة في المصانع, فجأة اكتشفوا أن هناك شروطا بيئية بينما نعمل منذ أكثر من50 عاما ولم يوجهنا أحد والغلق ليس هو الحل ولوسألنا أي عامل هل يتحمل الضوضاء أم البطالة سيضحك علينا ثم إن المصانع التي تغلق لا تستبدل بأخري بل تتحول لمقاه يجلس عليها العاطلون.
وشوارع المدينة ومرافقها التي تبدو كشوارع قرية وليست مدينة لها تاريخ؟
نحن نحارب لنحصل علي اعتمادات لإصلاح شبكة الطرق والصرف والسنة الماضية نجحنا في تخصيص اعتمادات بلغت210 ملايين جنيه منها60 مليونا للمياه,150 للصرف الصحي والصناعي وما تعجز عنه الميزانية نحاول أن نفعله بأنفسنا فأنا تبرعت بإقامة نفق للمشاه بعد أن تكررت الحوادث علي الطريق!!! ونحن لا نتوقف عن إثارة مشاكلنا في المجلس كلما سنحت الفرصة.
لا أعرف لماذا تذكرت وأنا أغادر المحلة قصة جمال مسعد أحد أبناء المحلة الذي وقف أمام بنك القاهرة فرع المحلة مهددا بالقيام بعملية انتحارية لتفجير البنك ما لم يحل المسئولون مشكلته وهي إيجاد عمل بعد أن وصل عمره إلي42 عاما ولايزال عاطلا!*
عدل سابقا من قبل Admin في الأحد يناير 16, 2011 11:56 pm عدل 1 مرات (السبب : خطا بالصور)